فصل: ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال وبعث الموتى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 إسلام حمزة رضي الله عنه

 

سبب إسلامه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني رجل من أسلم ، كان واعية ‏‏:‏‏ أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ؛ فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومولاة لعبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن ‏سعد بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ‏‏.‏‏

فلم يلبث حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه ، راجعا من قنص له ، و كان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ، وأشد شكيمة ‏‏.‏‏

فلما مر بالمولاة ، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، قالت له ‏‏:‏‏ يا أبا عُمارة ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام ‏‏:‏‏ وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه ، وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

 

إيقاع حمزة بأبي جهل و إسلامه

فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد ، مُعِدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ؛ فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ، ثم قال ‏‏:‏‏ أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ‏‏؟‏‏ فرد ذلك علي إن استطعت ‏‏.‏‏ فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ؛ فقال أبو جهل ‏‏:‏‏ دعوا أبا عمارة ، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا ، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ‏‏.‏‏ فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه ‏‏.‏‏

 قول عتبة بن ربيعة في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم

 عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال ‏‏:‏‏ حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ‏‏؟‏‏ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ؛ فقال ‏‏:‏‏ بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ؛ فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ‏‏.‏‏

‏‏:‏‏ قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ قل يا أبا الوليد ، أسمعْ ؛ قال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيِّا تراه لا تستيطع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه ، أو كما قال له ‏‏.‏‏

حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال ‏‏:‏‏ أقد فرغت يا أبا الوليد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ، قال ‏‏:‏‏ فاسمع مني ؛ قال ‏‏:‏‏ أفعل ؛

فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏‏.‏‏ حم ‏‏.‏‏ تنـزيل من الرحمن الرحيم ‏‏.‏‏ كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ‏‏.‏‏ بشيرا ونذيرا ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ‏‏.‏‏ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ‏‏)‏‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ‏‏.‏‏ فلما سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال ‏‏:‏‏ قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ‏‏.‏‏

رأي عتبة

فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ‏‏.‏‏ فلما جلس إليهم قالوا ‏‏:‏‏ ما وراءك يا أبا الوليد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ؛ قالوا ‏‏:‏‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؛ قال ‏‏:‏‏ هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم ‏‏.‏‏

ما دار بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين رؤساء قريش ، و تفسير لسورة الكهف

 قريش تفتن المسلمين ، و تستمر على تعذيب من أسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم ان الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة ، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير ، وعن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال ‏‏:‏‏

 زعماء قريش تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم

اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر ابن الحارث بن كلدة ، أخو بني عبدالدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه ، فبعثوا إليه ‏‏:‏‏ إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهم ؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، ‏حتى جلس إليهم ؛ فقالوا له ‏‏:‏‏ يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أونُعذر فيك ؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ما بي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

قالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ، ولا أقل ماء ، ولا أشد عيشا منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فَلْيُسيـِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول ‏‏:‏‏ أحق هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك من الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول ‏‏.‏‏ ‏فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه ‏‏:‏‏ ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أُرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم ‏‏.‏‏

قالوا ‏‏:‏‏ فإذا لم تفعل هذا لنا ، فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش منا كما تلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ‏‏.‏‏

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بُعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ‏‏.‏‏

قالوا ‏‏:‏‏ فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم فعل ‏‏.‏‏

قالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا ، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ‏‏!‏‏ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له ‏‏:‏‏ الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك ، أو تهلكنا ‏‏.‏‏ وقال قائلهم ‏‏:‏‏ نحن نبعد الملائكة ، وهي بنات الله ‏‏.‏‏ وقال قائلهم ‏‏:‏‏ لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا ‏‏.‏‏

 حديث عبدالله بن أبي أمية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام عنهم ، وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبدالمطلب - فقال له ‏‏:‏‏ يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ، ومنزلتك من الله ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وأيم الله ، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه ‏‏.‏‏

 أبو جهل يتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم

فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أُطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ؛ قالوا ‏‏:‏‏ والله لا نسلمك لشيء أبدا ، فامض لما تريد ‏‏.‏‏

 ما حدث لأبي جهل حين هم بإلقاء الحجر على الرسول صلى الله عليه و سلم

فلما أصبح أبو جهل ، أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو ‏‏.‏‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يـبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده ، وقامت إليه رجال قريش ، فقالوا له ‏‏:‏‏ ما لك يا أبا الحكم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، فهمَّ بي أن يأكلني ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏‏:‏‏ ذلك جبريل عليه السلام ، لو دنا لأخذه ‏‏.‏‏

 النضر بن الحارث ينصح قريشا بالتدبر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم

فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة ابن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم‏ أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر ، لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ؛ وقلتم كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم ؛ وقلتم شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ‏‏:‏‏ هزجه ورجزه ؛ وقلتم مجنون ، لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم ‏‏.‏‏

 أذى النضر بن الحارث للرسول صلى الله عليه وسلم

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم واسبنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكَّر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال ‏‏:‏‏ أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إلي ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول ‏‏:‏‏ بماذا محمد أحسن حديثا مني ‏‏؟‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وهو الذي قال فيما بلغني ‏‏:‏‏ سأنزل مثل ما أنزل الله ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول - فيما بلغني - ‏‏:‏‏ نزل فيه ثمان آيات من القرآن ‏‏:‏‏ قول الله عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن ‏‏.‏‏‏

 قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام

فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما ‏‏:‏‏ سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم ‏‏:‏‏ إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ‏‏.‏‏

فقالت لهما أحبار يهود ‏‏:‏‏ سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ‏‏.‏‏ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه ما هي ‏‏؟‏‏ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبي ، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ‏‏.‏‏

فأقبل النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي حتى قدما مكة على قريش ، فقالا ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرَوْا فيه رأيكم ‏‏.‏‏ ‏

 قريش تسأل والرسول يجيب

فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ؛ وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ؛ وأخبرنا عن الروح ما هي ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أخبركم بما سألتم عنه غدا ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ‏‏.‏‏

فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحُدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا ‏‏:‏‏ وعدنا محمدا غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ‏‏:‏‏ ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح ‏‏.‏‏

 الرد على قريش فيما سألوه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه ‏‏:‏‏ لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنا ؛ فقال له جبريل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما نتنـزَّل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله ، لما أنكروه عليه من ذلك ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ‏‏)‏‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، إنك رسول مني ‏‏:‏‏ أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولم يجعل له عوجا قيما ‏‏)‏‏ أي معتدلا ، لا اختلاف فيه ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ لينذر بأسا شديدا من لدنه ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي عاجل عقوبته في الدنيا ‏‏.‏‏ وعذابا أليما في الآخرة ‏‏:‏‏ أي من عند ربك الذي بعث رسولا ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ويـبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي دار الخلد ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ لا يموتون فيها ‏‏)‏‏ الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ‏‏)‏‏ يعني قريشا في قولهم ‏‏:‏‏ إنا نعبد الملائكة ، وهي بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ما لهم به من علم ولا لآبائهم ‏‏)‏‏ الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ كبرت كلمة تخرج من أفواههم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لقولهم ‏‏:‏‏ إن الملائكة بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ إن يقولون إلا كذبا ، فلعلك باخع نفسك ‏‏)‏‏ يا محمد ‏‏(‏‏ على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم ‏‏:‏‏ أي لا تفعل ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ باخع نفسك ، أي مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه * لشيء نحَتْه عن يديه المقادرُ

وجمعه ‏‏:‏‏ باخعون وبخعة ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وتقول العرب ‏‏:‏‏ قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي أيهم أتبع لأمري ، وأعمل بطاعتي ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الصعيد ‏‏:‏‏ الأرض ، وجمعه ‏‏:‏‏ صعد ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا ‏‏:‏‏

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به * دبَّابة في عظام الرأس خرطومُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والصعيد أيضا ‏‏:‏‏ الطريق ‏‏.‏‏ وقد جاء في الحديث ‏‏:‏‏ إياكم والقعود على الصعدات ‏‏.‏‏ يريد الطرق ‏‏.‏‏ والجرز ‏‏:‏‏ الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها ‏‏:‏‏ أجراز ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ سنة جرز ، وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر ، وتكون فيها جُدوبة ويُبْس وشدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف إبلا ‏‏:‏‏

طوى النحز والأجراز ما في بطونها * فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ‏

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

 ما أنزله الله في قصة أهل الكهف

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعجب من ذلك ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والرقيم ‏‏:‏‏ الكتاب الذي رُقم فيه بخبرهم ، وجمعه ‏‏:‏‏ رُقُم ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏

ومستقر المصحف المرقَّمِ *

وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا ‏‏.‏‏ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ‏‏.‏‏ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ نحن نقص عليك نبأهم بالحق ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي بصدق الخبر عنهم ‏‏(‏‏ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والشطط ‏‏:‏‏ الغلو ومجاوزة الحق ‏‏.‏‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏

لا ينتهون ولا ينهى ذوي شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتلُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي بحجة بالغة ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ‏‏.‏‏ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ‏‏.‏‏ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، وهم في فجوة منه ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ تزاور ‏‏:‏‏ تميل ، وهو من الزور ‏‏.‏‏ وقال امرؤ القيس بن حجر ‏‏:‏‏

وإني زعيم إن رجعت مملكا * بسير ترى منه الفُرانق أزورا

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال أبو الزحف الكليبـي يصف بلدا ‏‏:‏‏

جأب المندَّى عن هوانا أزورُ * يُنضي المطايا خمسه العَشَنـْزَرُ

وهذان البيتان في أرجوزة له ‏‏.‏‏ و ‏‏(‏‏ تقرضهم ذات الشمال ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ تجاوزهم وتتركهم عن شمالها ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏

إلى ظُعْن يقرضن أقواز مشرف * شمالا وعن أيمانهنّ الفوارسُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والفجوة ‏‏:‏‏ السعة ، وجمعها ‏‏:‏‏ الفجاء ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

ألبست قومك مخزاة ومنقصة * حتى أُبيحوا وخلوا فجوة الدارِ

‏‏(‏‏ ذلك من آيات الله ‏‏)‏‏ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ، ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ‏‏.‏‏ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الوصيد ‏‏:‏‏ الباب ‏‏.‏‏ قال العبسي ، واسمه عُبيد بن وهب ‏‏:‏‏

بأرض فلاة لا يسد وصيدها * علي ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ والوصيد أيضا ‏‏:‏‏ الفناء ، وجمعه ‏‏:‏‏ وصائد ، ووصد ، ووصدان ، وأصد ، وأصدان ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا ‏‏)‏‏ ‏إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قال الذين غلبوا على أمرهم ‏‏)‏‏ أهل السلطان والملك منهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ لنتخذن عليهم مسجدا ، سيقولون ‏‏)‏‏ يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ، رجما بالغيب ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا علم لهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا تكابرهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولا تستفت فيهم منهم أحدا ‏‏)‏‏ فإنهم لا علم لهم بهم ‏‏.‏‏

‏‏(‏‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا ‏‏:‏‏ إني مخبركم غدا ‏‏.‏‏ واستثن شِيْئَة الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لخير مما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي سيقولون ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ قل الله أعلم بما لبثوا ، له غيب السماوات والأرض ، أبصر به وأسمعْ ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحدا ‏‏)‏‏ أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه ‏‏.‏‏

 

ما أنزل الله تعالى في خبر الرجل الطواف ذي القرنين

وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطواف ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويسئلونك عن ذي القرنين ، قل سأتلو عليكم منه ذكرا ‏‏.‏‏ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ‏‏.‏‏ فأتبع سببا ‏‏)‏‏ حتى انتهى إلى آخر قصة خبره ‏‏.‏‏

 

خبر ذي القرنين

وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت أحد غيره ، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها ، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما ‏توارثوا من علمه ‏‏:‏‏ أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر ، اسمه مرزُبان بن مرذبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسمه الإسكندر ، وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان رجلا قد أدرك ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال ‏‏:‏‏ ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب ‏‏.‏‏

وقال خالد ‏‏:‏‏ سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول ‏‏:‏‏ يا ذا القرنين ؛ فقال عمر ‏‏:‏‏ اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسمَّوْا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ الله أعلم أي ذلك كان ، أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم لا ‏‏؟‏‏ فإن كان قاله ، فالحق ما قال ‏‏.‏‏

 

ما أنزل الله تعالى في أمر الروح

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

سؤال يهود المدينة للرسول صلى الله عليه و سلم عن المراد من قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحُدثت عن ابن عباس ، أنه قال ‏‏:‏‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قالت أحبار يهود ‏‏:‏‏ يا محمد ، أرأيت قولك ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ إيانا تريد ، أم قومك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ كلا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فإنك تتلو فيما جاءك ‏‏:‏‏ أنا ‏قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء ‏‏.‏‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إنها في علم الله قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ، إن الله عزيز حكيم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل ‏‏.‏‏

 

ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال وبعث الموتى

قال ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولوأن قرآنا سُيرِّت به الجبال ، أو قُطعت به الأرض ، أو كُلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت ‏‏.‏‏

 

ما أنزل الله تعالى رداً على قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك

وأُنزل عليه في قولهم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك ، ما سألوه أن يأخذ لنفسه ، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ، ويرد عنه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ، أو يُلقى إليه كنـز ، أو تكون له جنة يأكل منها ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏‏.‏‏ اُنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش ‏‏(‏‏ جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعلْ لك قصورا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت

وأُنزل عليه في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، أتصبرون وكان ربك بصيرا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخُالَفوا لفعلت ‏‏.‏‏

 

القرآن يرد على ابن أبي أمية

وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ‏‏.‏‏ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ‏‏.‏‏ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ‏‏.‏‏ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الينبوع ‏‏:‏‏ ما نبع من الماء من الأرض وغيرها ، وجمعه ‏‏:‏‏ ينابيع ‏‏.‏‏ قال ابن هَرْمة ، واسمه إبراهيم بن علي الفهري ‏‏.‏‏

وإذا هرقت بكل دار عبرة * نُزف الشئون ودمعك الينبوع

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والكسف ‏‏:‏‏ القطع من العذاب ، وواحدته ‏‏:‏‏ كسفة ، مثل سدرة وسدر ‏‏.‏‏ وهي أيضا ‏‏:‏‏ واحدة الكسف ‏‏.‏‏ والقبيل ‏‏:‏‏ يكون مقابلة ومعاينة ، وهو كقوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أو يأتيهم العذاب قبلا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي عيانا ‏‏.‏‏ وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏

أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها * كصرخة حُبْلى يسَّرتها قبيلُها يعني القابلة ، لأنها تقابلها وتقبل ولدها ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ القبيل ‏‏:‏‏ جمعه قُبُل ، وهي الجماعات ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ‏‏)‏‏ فقُبل ‏‏:‏‏ جمع قبيل ، مثل سبل ‏‏:‏‏ جمع سبيل ، وسرر ‏‏:‏‏ جمع سرير ، و قمص ‏‏:‏‏ جمع قميص ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ في مثل من الأمثال ، وهو قولهم ‏‏:‏‏ ما يعرف قبيلا من دبير ‏‏:‏‏ أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر ؛ قال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏

تفرقت الأمور بوجهتيهم * فما عرفوا الدَّبـيـر من القَبيلِ

وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال ‏‏:‏‏ إنما أريد بهذا القبيل ‏‏:‏‏ الفتل ، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل ، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير ، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ فتل المغزل ‏‏.‏‏ فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل ، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ قوم الرجل ‏‏.‏‏ والزخرف ‏‏:‏‏ الذهب ‏‏.‏‏ والمزخرف ‏‏:‏‏ المزين بالذهب ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏

من طلل أمسى تخال المصحفا * رسومه والمذهب المزخرفا

وهذان البيتان في أرجوزة له ، ويقال أيضا لكل مزيَّن ‏‏:‏‏ مزخرف ‏‏.‏‏

نفي القرآن أن رجلا من اليمامة يعلمه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأُنزل في قولهم ‏‏:‏‏ إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة ، يقال له الرحمن ، ولن نؤمن به أبدا ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ، وإليه متاب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 

ما أنزله الله تعالى في أبي جهل و ما هم به

وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام ، وما هم به ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، أرأيت إن كذب وتولى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدع ناديه ، سندع الزبانية ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ لنسفعا ‏‏:‏‏ لنجذبن ولنأخذن ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم * من بين ملجم مُهْره أو سافع

والنادي ‏‏:‏‏ المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وتأتون في ناديكم المنكر ‏‏)‏‏ وهو الندي ‏‏.‏‏ قال عبيد بن الأبرص ‏‏:‏‏

اذهب إليك فإن من بني أسد * أهل الندي وأهل الجود والنادي

وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وأحسن نديا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ وجمعه ‏‏:‏‏ أندية ‏‏.‏‏ فليدع أهل ناديه ‏‏.‏‏ كما قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ واسأل القرية ‏‏)‏‏ يريد أهل القرية ‏‏.‏‏ قال سلامة ابن جندل ، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم ‏‏:‏‏

يومان يومُ مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأويبِ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏

لا مهاذير في النديّ مكاثيرَ ولا مصمتين بالإفحامِ *

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ النادي ‏‏:‏‏ الجلساء ‏‏.‏‏ والزبانية ‏‏:‏‏ الغلاظ الشداد ، وهم في هذا الموضع ‏‏:‏‏ خزنة النار ‏‏.‏‏ والزبانية أيضا في الدنيا ‏‏:‏‏ أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه ، والواحد ‏‏:‏‏ زِبْنِية ‏‏.‏‏ قال ابن الزبعرى في ذلك ‏‏:‏‏

مطاعيمُ في المقرى مَطاعين في الوغى * زبانية غلب عظام حلومها

يقول ‏‏:‏‏ شداد ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال صخر بن عبدالله الهذلي ، وهو صخر الغي ‏‏:‏‏

ومن كبير نفر زبانية *

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏

 

ما أنزله تعالى فيما عرضوه عليه ، عليه الصلاة و السلام من أموالهم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، إن أجري إلا على الله ، وهو على كل شيء شهيد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 استكبار قريش عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم

فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم ‏‏:‏‏ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، أي اجعلوه لغوا وباطلا ، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم ‏‏.‏‏

 تهكم أبي جهل بالرسول صلى الله عليه و سلم و تنفير الناس عنه

فقال أبو جهل يوما و هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار و يحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا ، وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ‏‏؟‏‏ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ‏‏)‏‏ إلى آخر القصة ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي ، يتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوته ، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته ، وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه ‏‏.‏‏

سبب نزول آية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ و لا تجهر ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ الخ ‏‏)‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني داود بن الحصين ، مولى عمرو بن عثمان ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حدثهم ‏‏:‏‏ إنما أنزلت هذه الآية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا ‏‏)‏‏ من أجل أولئك النفر ‏‏.‏‏ يقول ‏‏:‏‏ لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به ‏‏.‏‏ ‏